وانكسر القيد

537041_179513872202264_1898064091_n
الصباح هو أساس كل البدايات الجديدة. يغمر ضوءه السماء ليزيح عنها ظلمة الليلة السابقة. ينثر اشراقته وبهجته على خدود الأطفال النائمين وعلى شيب رأس العجائز الجالسين في كراسيهم الوثيرة يذكرون الله وعلى قلوب الشباب المليئة بالأحلام والآمال.

أمسكت ليلى فنجان قهوتها, غارقة في تأملاتها وهي تراقب شروق الشمس من خلف المباني المجاورة… لأول مرة منذ أربع سنوات تستمتع بالصباح. تستشعر دفء الشمس على بشرتها البيضاء المشربة بحمرة محببة. تترك النسيم يدغدغ حواسها أثناء مراقبتها للأبخرة المنبعثة من فنجان قهوتها الساخنة.

كانت تشعر بالحرية لأول مرة منذ سنوات. أخذت تسلي نفسها بتخيل ما كانت ستكون فاعلة لو لم تنهي خِطبتها منذ أيام قليلة.
تكاد تسمع الصوت الذي تشعر تجاهه بمزيج فريد من الحب والكره عبر هاتفها المحمول,الذي ما كان يفارق أذنها حتى ليصيبها بالصداع معظم الأيام: “صاحية بدري ليه؟”
وتتخيل نفسها تجيب بصوت مرهق: “عادي عاوزه أشوف الشمس وهي بتشرق.”
“انتي في البلكونة؟!” تلمح نبرة الاستنكار في صوته وتجيب بهدوء: “ايوه بشم شوية هوا…”
“ولما حد من الجيران يشوفك في البلكونة؟ يقولوا ايه؟ انتي تصرفاتك كلها بقت غلط!!”
تتوقف بمخيلتها عند هذا الحد وتتنهد بعمق متسائلة كيف احتملت كل هذا لما يزيد عن 3 سنوات!

هذا غيض من فيض مما يحدث عندما تعشق الفتاة شرقيا مريض النفس. لا يرى في أنثاه سوى مرضه بالشك وإحساسه بالخوف من الخيانة وخوفه من أن ينظر احد إليها ولو نظرة عابرة لا تعني شيئا. فيود لو وضع فتاته في قبو احد القصور من العصور الوسطى لكي لا يراها احد غيره ولا يسمع صوتها سواه ولا تخرج ابتسامتها إلا عندما يأذن هو.
وعندها ينتهي به الأمر كمن قطف وردة حمراء غضة لغيرته من تربتها التي زرعت بها والضوء الذي ينعش حواسها والماء الذي يغذيها. فتذبل الوردة كما تذبل الفتاة. فلا يعود شكلها جميلا ولا يعود صوتها ذو نغمة تكاد تكون مغردة ولا تصير ابتسامتها إلا انعكاسا لإرهاق الروح التي تعاني من حب رجل لا يفهم معنى كلمة حبيبنا صلى الله عليه وسلم: “رفقا بالقوارير”
تصبح كالسجينة داخل جسدها… تراقب حياتها تمر أمامها وهي تتصرف بناءا على قائمة من القواعد والقوانين وضعها ذلك الشرقي الطاغية.
حتى يأتي يوم تطالب فيه العصفورة بالحرية. بحقها في الكلام والضحك والابتسامة وتنشق الهواء في شرفة منزلها بكامل حجابها وباحترامها. فتطعن عندها في حبها وتتهم بأنها لا تهتم لأمر سجانها ويبدأ خياله المريض في استعراض الرجال في محيطها ليرسم لنفسه السقيمة صورا لكيف تتم خيانته من قبل أسيرته.
وتستمر حلقة الضغط على الأعصاب حتى تولد انفجارا يؤدي إلى خسارة ذلك الأحمق أجمل ما حدث في حياته ليندب سوء حظه بعد فوات الأوان… بعد مغادرة الطائر للقفص المخملي بلا رجعه… بعد رحيل من كانت تهتم بصدق وبإخلاص للدراما السخيفة التي يكون غالبا هو من اخترعها في حياته!

أطلقت ليلى تنهيدة أخرى ووجدت أن الشمس قد ارتفعت فوق الأسطح خلال استغراقها في أفكارها. ارتشفت باقي فنجان قهوتها بلذة واستمتاع.
هي الآن حرة… حرة لتضحك وتمارس الحياة بشغف وتقف في الشرفة دون اتهام احد لها أنها تقوم بشيء “غلط”
ابتسمت ليلى وأحست بالابتسامة تنبع من قلبها لأول مرة منذ زمن بعيد.
تساءلت في نفسها عما ستفعله اليوم… قررت أن تذهب للمكتبة لشراء بعض الروايات والكتب حديثة الإصدار. لم تحمل هم استجواب سيطول أمده لمحاولة إقناعها أن رواياتها لا فائدة منها وانه من الأفضل لها لو قرأت كتب التاريخ التي كانت تمقتها ولا تذكر منها شيئا بعد الفراغ منها… بل كانت تتفادى أن تقرأ لكي لا تدخل في جدل عن كيفية أن بعض الروايات داعرة وفاجرة وأنها بالتأكيد سوف تؤثر بشكل سلبي على أخلاقها!!! وكأنه كان يظن انه قد خطب من لا عقل لها لتميز أن بعض الروايات لا تعكس الواقع ولا تنطبق إلا على شريحة صغيرة من مجتمعنا أو من مجتمعات أخرى. ولكنها كانت تنقلها لزمن الحفلات الراقصة والفساتين المزركشة والحب تحت سماء مزركشة بالنجوم والقمر المكتمل! فما الضرر؟ ما الضرر يا عزيزي من بعض الخيال؟ لم يجب يوما عن سؤالها بل ظل يحارب هوايتها بضراوة حتى فقدت الكثير من شغفها بالكتب اتقاءً للجدل المصاحب لهذا الشغف.

ستمر في طريقها لتشتري مفكرة وأقلام حبر ملونة, علها تعود لممارسة الكتابة في النثر والشعر. وستنشر ما تكتب عير صفحات الانترنت. فلا يوجد من يمنعها بحجة انه لا يصح للفتاة أن تكتب عن الحب والأحلام. لأنها شرقية! لأننا شرقيون.. ولان المجتمع يتحدث عمن تفعل ذلك بكل سوء ويتهمها بالخبرات الواسعة في مجال الحب والتجارب العاطفية!
ضحكت من كل قلبها لسذاجة تلك الكلمات. تذكرت شهرزاد الخليج وأحلام مستغانمي وغادة السمان. لم يتحدث المجتمع عنهن إلا بكل إجلال وتقدير لموهبتهن العريضة.

تعبت قدماها من الوقوف في الشرفة فدخلت المنزل لتجد هاتفها مضاء.
“4 مكالمات لم يتم الرد عليها”
وجدت المكالمات من رقمه. لم تبكي كما توقعت… لم تشعر بوخزه الفقد تحز في صدرها كما السكين. بل ابتسمت وشرعت في كتابه رسالة نصية. بعثتها ثم ضغطت بسبابتها على زر إغلاق الهاتف تماما.
وفي أقصى طرف المدينة الآخر أضاء هاتفه برسالتها التي سيقضي ما بقي له من سنوات الشباب في محاولة فهم كلماتها المقتضبة:

“عذرا عزيزي… لقد انكسر القيد”

آية عاطف

Leave a comment